أثر فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) على الاقتصاد الفلسطيني

 

بقلم: د. سامية البطمة

يعمل الاقتصاد الفلسطيني تحت سطوة القيود الشديدة الناجمة أساساً من التشوهات البنيوية التي سبَّبتها إجراءات الاحتلال الإسرائيلي. وعلى الرغم من عملية السلام الموقَّعة منذ أكثر من 25 عاماً، لا زال الفلسطينيون يفتقرون إلى السيطرة على العديد من المجالات الحيوية كالموارد الطبيعية، وحرية تنقل العمالة ونقل البضائع، والسيطرة على الحدود، وتقسيم وفرز الأراضي إلى مناطق (zoning)، والأدوات الاقتصادية مثل السياسات النقدية. أدى كل ذلك إلى تآكل القاعدة الإنتاجية للاقتصاد الفلسطيني، ويتبيَّن ذلك بوضوح في البنية المتغيرة للناتج المحلي الإجمالي، حيث شهدت حصة قطاع الزراعة والصناعة والبناء انخفاضاً ملحوظاً على مر السنين. فمثلاً في العام 1994، كانت حصة القطاع الزراعي 13% من الناتج المحلي الإجمالي، لكن خلال العام 2017 أصبحت حصتها فقط 3.4 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي. خلال نفس الفترة (1994-2017)، انخفضت نسبة القطاع الصناعي من الناتج المحلي الإجمالي من 25% إلى 20%. من ناحية أخرى، ارتفعت مساهمة قطاع الخدمات والإدارة العامة من 68% في عام 1994 إلى 76% سنة 2017 (الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، 2019). أدت هذه التغييرات البنيوية غير المواتية لتداعيات خطيرة على الاقتصاد الفلسطيني بشكل متواصل، ولا سيما في إعاقة قدرة سوق العمل الفلسطيني على خلق فرص العمل واستيعاب العمال.

في ظل هذه الظروف السياسية والاقتصادية الصعبة في فلسطين، تم تشخيص أول حالات الإصابة بفيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) في بيت لحم بتاريخ 5 آذار 2020. منذ ذلك اليوم، تم فرض العديد من الإغلاقات ثم رفعها فيما بعد. في تاريخ 8 حزيران، تم تشخيص 651 حالة إصابة بهذا الوباء في فلسطين، وأكثر من 60% من تلك الحالات كانت مرتبطة بالعمال العاملين في إسرائيل (المصدر: مكتب رئيس وزراء، 2020). تمثل الفترة المذكورة أعلاه الموجة الأولى لهذه الجائحة، وبعدها بدأت تتراكم الحالات الواحدة تلو الأخرى حتى اندلعت الموجة الثانية للوباء. أشارت البيانات في منتصف شهر آب من العام 2020 إلى أن هناك 122 حالة وفاة من هذا الوباء وأكثر من 22,056 حالة إصابة مسجَّلة في فلسطين (بما في ذلك القدس) (وزارة الصحة الفلسطينية، 2020).

وكما هو الحال في كافة أنحاء العالم، شهدت فلسطين تداعيات اقتصادية خطيرة نتيجة للوباء، وخاصةً بعد ارتفاع عدد حالات الإصابة في الموجة الثانية والحاجة المستمرة لفرض الإغلاقات. ومن هذا المنطلق، تحوَّل الوباء من مشكلة صحية إلى صفعة قوية للاقتصاد وسوق العمل الفلسطيني. لم يؤثر ذلك فقط على العرض (إنتاج البضائع والخدمات)، بل وأثر أيضاً على الطلب (الاستهلاك والاستثمار)، حيث امتدت تاثيرات الاضطرابات الإنتاجية إلى سلاسل التوريد. وفي نفس الوقت، واجهت جميع المشاريع والأنشطة التجارية (بغض النظر عن حجمها) تحديات جمة، وخاصةً الشركات العاملة في مجال السياحة والنقل والضيافة، مما شكَّل تهديداً حقيقياً بحدوث انخفاض كبير في الإيرادات، وفقدان الوظائف وازدياد حالات الإعسار المالي في قطاعات معينة (منظمة العمل الدولية، 2020).

تجلى أثر جائحة الكورونا على الاقتصاد الفلسطيني على المستويين الكلي والجزئي. فعلى مستوى الاقتصاد الكلي، أشارت البيانات الصادرة عن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني أن من المتوقع أن ينخفض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 13.5% بسبب تأثر الطلب والعرض في آنٍ واحد (الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، 2020). لكن معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني – ماس (2020) يتوقع بالمقابل حدوث انخفاض أكبر بكثير في الناتج المحلي الإجمالي وأن الخسائر قد تصل إلى 35% (38% للعاملين في إسرائيل). نتيجة ذلك، سينخفض مستوى الطلب في اقتصاد الضفة الغربية بنسبة 25% للعمال داخل الاقتصاد الفلسطيني وبنسبة 50% للعمال في إسرائيل – وهذا يعني بأن الانخفاض الكلي في الطلب على العمالة في الضفة الغربية سيصل إلى 30%.

تشير هذه التقديرات الإجمالية إلى حدوث تداعيات بعيدة المدى على كافة مناحي الحياة الاقتصادية، بما في ذلك التوظيف، وحقوق العمال، والإنتاج، والتجارة، ومستويات المعيشة وغيرها. وبحسب تقديرات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، تم إغلاق 37,336 منشأة نتيجة لقرار السلطة الفلسطينية بتقييد النشاط الاقتصادي ابتداءً من 22 آذار 2020. كانت هذه المنشآت توظف 105,345 عاملاً في الضفة الغربية وقطاع غزة (71,043 في الضفة الغربية و34,302 في قطاع غزة). ووفقاً للتقديرات، انخفضت قدرة هذه المنشآت على استيعاب العمالة بقيمة 26%. وبحسب معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني – ماس، من المتوقع أن ترتفع نسبة البطالة في الضفة الغربية لتصل إلى 36% على الأقل. خلال العام 2019، بلغت معدلات البطالة في الضفة الغربية 15%، وهذا يعني أنه من المتوقع أن تتضاعف نسبة البطالة. كما تشير الدراسات إلى أن الانخفاض في توظيف العمال غير المهرة سيكون أعلى بكثير من الانخفاض في توظيف العمال المهرة (15%).

وفيما يتعلق بالإغلاقات، هناك مجموعتين واسعتين من القطاعات أو المهن التي استمر العمال بأنشطتهم فيها وحصلوا على مرتباتهم دون أن يتأثروا كثيراً. أولاً، القطاعات أو المهن التي يمكن العمل عليها من البيت (العمل عن بُعد)، وثانياً، القطاعات أو المهن التي تستدعي “عمالاً ضروريين”. تشمل هاتين الفئتين موظفي القطاع العام[1]، مثل العمال الضروريين في القطاع المالي وقطاعَي الصحة والرعاية، بالإضافة إلى العاملين عن بُعد في قطاع التربية والتعليم والمؤسسات غير الحكومية. علاوة على ذلك، استمر بعض العمال الفلسطينيين في وظائفهم داخل إسرائيل، وكانت هناك حاجة لإبقاء نسبة من هؤلاء العمال للقيام بالأنشطة الضرورية كإنتاج الأغذية، وصيانة البنية التحية وما شابه. على الرغم من ذلك، لم تتمكن نسبة كبيرة من العمال من مواصلة أعمالهم أو جني أي دخل خلال فترات الإغلاق، ومنهم العمال المأجورين في الاقتصاد غير الرسمي، والعمال المؤقتين أو غير المنتظمين (بما في ذلك العاملين في قطاع النقل)، والعمال المنزليين، وعمال البناء والباعة المتجولين. ومن بين المتأثرين أيضاً أصحاب المشاريع الصغيرة والعاملين لحسابهم الخاص (بما في ذلك تجار الجملة والتجزئة (المفرَّق)، وعمال المواصلات وأصحاب المطاعم)، ناهيك عن العمال العاديين الذين تم إغلاق قطاعاتهم بشكل كامل (مثل العاملين في قطاعات السياحة والفنادق وبعض المطاعم وشركات التصنيع).

إحدى الفئات الأكثر تضرراً هم عمال الاقتصاد غير الرسمي الذين يتم توظيفهم بدون عقود، وهؤلاء هم جزء من العمال الفلسطينيين المأجورين الذين لا يعملون وفقاً لأي عقد، والذين تصل نسبتهم 48% من إجمالي العمال المأجورين. يشكل هؤلاء العمال تقريباً 50% من العاملين في القطاع الزراعي و40% من عمال البناء. كما أن الكثير من عمال الاقتصاد غير الرسمي يعملون لحسابهم الخاص، وخاصةً المشتغلين في قطاع النقل وتجارة التجزئة (الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، 2020)، وهذا يعني أن العمال الأقل مهارة سيعانون أكثر من أي فئة أخرى.

المصدر: مسح القوى العاملة الفلسطينية – الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني (2020).

من المتوقع أن تزداد معدلات الفقر نتيجة لفقدان الإنتاج وإغلاق المحال التجارية وفقدان الوظائف، وتشير التوقعات إلى أن قيمة الأجور ستنخفض بنسبة 6% نتيجة لإغلاق المحال والمشاريع التجارية.

وبشكل عام، تُظهر هذه التقديرات أن لدى فيروس كورونا المستجد أثر هائل على الاقتصاد الفلسطيني، وخاصةً على نمو الناتج المحلي الإجمالي، والطلب/الاستهلاك، والتوظيف/العمالة، والتجارة ومعدلات الفقر. لذلك، يجب على سياسات الاستجابة أن تتضمن توجيهات واستراتيجيات طويلة الأمد يتم فيها الأخذ بعين الاعتبار التشوهات والاختلالات الموجودة في سوق العمل الفلسطيني. إن الغاية من ذلك هي تعزيز قاعدة الاقتصاد الفلسطيني من خلال الاستثمار في النشاطات الإنتاجية التي من شأنها أن تخلق وظائف مستدامة مع تجنب خلق فرص العمل التي تركز فقط على التوفير المؤقت للدخل. يستدعي ذلك المزيد من التدخلات البنيوية التي تربط بين سياسات الاقتصاد الجزئي وسياسات الاقتصاد الكلي (مع التركيز على الاستثمار والاستفادة من التجارة) من أجل خلق فرص عمل منتجة وأكثر استقراراً في الاقتصاد الفلسطيني. يمكن عمل ذلك كمايلي:

– أن تشمل التدخلات قصيرة الأجل خطط دعم الدخل وإعانات الأجور للعمال الذين فقدوا وظائفهم أو دخلهم بسبب الإغلاقات (مع وجود خطط خاصة تستهدف عمال الحضانات، وسائقي سيارات الأجرة والعمومي، والعاملين المنزليين وغيرهم من عمال المياومة – سواء في الاقتصاد الرسمي أو غير الرسمي).

– يجب أن تستهدف التدخلات طويلة الأجل القطاعات الإنتاجية كالقطاع الصناعي والزراعي. وتجدر الإشارة بأن تعزيز ودعم هذَين القطاعَين هو في غاية الأهمية لأنهما يولّدان فرص عمل ذات جودة واستقرار أعلى ويقللان من الاعتماد على الاقتصاد الإسرائيلي. يمكن عمل ذلك (على سبيل المثال) من خلال إعطاء الأولوية لبعض القطاعات الصناعية الفرعية وتقديم الدعم لها. إن اختيار هذه القطاعات الفرعية يجب أن يأخذ بعين الاعتبار المتطلبات الاقتصادية من جهة والقيود الإسرائيلية المفروضة على الشعب الفلسطيني من جهة أخرى. بالإضافة لذلك، يجب تعزيز شبكات سلاسل التوريد الخاصة بهذه القطاعات (وخاصةً الشبكات المحلية) من أجل الاستفادة بشكل أكبر من المساهمات والخبرات المحلية وتقليل الواردات من الاقتصاد الإسرائيلي قدر الإمكان. يجب أخذ كافة هذه الأمور بعين الاعتبار، ومن المهم أيضاً الرفع من مستوى تدريب الموارد البشرية العاملة في هذه القطاعات من خلال تقديم التدريب المهني ذو الجودة العالية، ولا سيما في الجوانب المرتبطة باستخدام التكنولوجيا، والابتكار، والتسويق، والمساهمات/المدخلات.

المراجع:

  • مكتب رئيس الوزراء الفلسطيني (آب، 2020). تم الدخول للصفحة بتاريخ 7 آب 2020، الرابط: https://www.corona.ps/
  • الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني (إصدارات مختلفة)، مسح القوى العاملة. رام الله، فلسطين.
  • الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني (2020)، الأثر الاقتصادي لجائحة كوفيد-19 (كورونا): الحقائق والوقائع. رام الله، فلسطين.
  • الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني (آذار، 2020)، التوقعات الاقتصادية لعام 2020 في ظل الانتشار الحالي لفيروس كورونا. بيان صحفي. رام الله، فلسطين.
  • وزارة الصحة الفلسطينية (تموز، 2020)، تم الدخول للصفحة بتاريخ 15 تموز، الرابط:

https://www.facebook.com/mohps/posts/2971319839660541

  • معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني – ماس (2020)، تقييم أولي للآثار المحتملة على الاقتصاد الفلسطيني لتفشي وباء كوفيد-19 في الضفة الغربية. المراقب الاقتصادي – عدد خاص. رام الله: فلسطين.
  • معهد ابحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني – ماس (2019)، المراقب الاقتصادي رقم 57. رام الله: فلسطين.

[1] تم دفع الراتب الكامل لهؤلاء الموظفين لشهر آذار ونيسان، وحصلوا على نصف مرتبهم لشهر أيار وحزيران.


 

 

 

 

 

 

 

 

سامية البطمة

أستاذة مساعدة في الاقتصاد في جامعة بيرزيت. خدمت كمديرة مركز دراسات التنمية في جامعة بيرزيت حتى عام 2014. عملت أيضاً كباحثة في معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني – ماس في رام الله. أكملت درجة الدكتوراه في جامعة لندن للدراسات الشرقية والأفريقية في تخصص اقتصاديات العمل. تشمل مجالات اهتمامها ومنشوراتها مواضيع الاقتصاد الجندري، واقتصاديات العمل، والاقتصاد السياسي للتنمية. كما شاركت البطمة في أبحاث عديدة حول بدائل التنمية النيوليبرالية في الضفة الغربية وقطاع غزة، واقتصاديات الدولة الواحدة، والفوارق الجندرية في نتائج سوق العمل.


إن الأوراق المنشورة تحت عنوان “Rosa Paper” هي مجموعة من التحليلات ووجهات النظر التي يتم نشرها بشكل غير منتظم من قِبَل المكتب الإقليمي لمؤسسة روزا لوكسمبورغ في فلسطين والأردن. إن محتويات هذه الأوراق هي مسؤولية المؤلف وحده ولا تعكس بالضرورة موقف المكتب الإقليمي لمؤسسة روزا لوكسمبورغ في فلسطين والأردن.

تعد مؤسسة روزا لوكسمبورغ واحدة من المؤسسات الرئيسية للتعليم والتثقيف السياسي في جمهورية ألمانيا الاتحادية. تخدم المؤسسة كمنتدى للنقاش والتفكير النقدي حول البدائل السياسية وأيضاً بمثابة مركز للبحث الخاص بالتنمية الاجتماعية التقدمية، فضلاً عن ارتباطها الوثيق بحزب اليسار الألماني (Die Linke).

منذ عام 2000، تقوم المؤسسة بدعم شركائها في فلسطين وقامت بتأسيس مكتبها الإقليمي في مدينة رام الله عام 2008. في الوقت الحالي، يتولى هذا المكتب مسؤولية التعاون المثمر في مشاريع مختلفة مع شركاء المؤسسة في الضفة الغربية، وشرقي القدس، وقطاع غزة وأيضاً في الأردن.

 

})(jQuery)