الانتخابات الإسرائيلية: سباق الاستيطان والحرب

 

 

 

 

الفلسطينيون في البرامج الانتخابية الإسرائيلية: مطرقة الضم والردع (Getty Images/JTA Montage)

هنيدة غانم 

 

تجري الانتخابات الإسرائيلية للمرة الثانية هذا العام في ١٧ أيلول، وتتنافس فيها 32 قائمة انتخابية على 120 مقعدًا. وتأتي هذه الانتخابات بعد أقل من خمسة أشهر من الانتخابات التي جرت في 9 نيسان 2019. وتعقد هذه الانتخابات في أعقاب فشل بنيامين نتنياهو، زعيم حزب الليكود، الذي تم تكليفه من رئيس الدولة بتشكيل الحكومة بعد توصية الأكثرية عليه في تشكيل حكومة يمينية برئاسته. وكانت مساعي نتنياهو قد فشلت على أثر تعثر المحادثات بينه وبين حزب “إسرائيل بيتنا” بزعامة أفيغدور ليبرمان الذي يطرح نفسه بوصفه ممثلًا للتيار اليميني العلماني.

يدّعي ليبرمان أن رفضه الانضمام للحكومة اليمينية التي عمل على تشكيلها نتنياهو، رغم تقاطعه مع الأيديولوجيا اليمينية الاستيطانية التي يحملها، يرتبط بشكل خاص بمطالبه لتجنيد الحريديين، وبشكل عام برفضه دعم تحول “إسرائيل الى دولة شريعة –هالاخا”. لكن أغلبية المحللين أشاروا إلى أن هذه مجرد حجة واهية استخدمها ليبرمان للتغطية، وأن السبب الحقيقي لعدم انضمامه لحكومة اليمين التي سعى نتنياهو لتشكيلها مع الحريديين هي شخصية ومرتبطة بوجود شرخ عميق بين ليبرمان ونتنياهو. وبغض النظر عن الأسباب الحقيقية التي أدت بليبرمان إلى عدم الانضمام إلى حكومة بزعامة نتنياهو، فإن الذهاب إلى انتخابات ثانية بعد انغلاق الأفق لتشكيل حكومة، فاجأ المراقبين والمحللين والسياسيين جميعًا، وأدى إلى إعادة خلط الأوراق مجددًا. لقد سمحت إعادة الانتخابات بإعطاء فرصة ثانية، خاصة للأحزاب، بإعادة حساباتها بشأن تحالفاتها، وهو ما تمخض عن إعادة تشكيل تحالفات كانت تفككت وحلت أخرى اثبتت عدم نجاعتها، كما أسهم إفشال إقامة الحكومة اليمينية من قبل ليبرمان اليميني إلى فتح الطريق أمام خيارات ائتلافية جديدة أهمها تشكيل حكومة وحدة وطنية من “الليكود” و”أبيض أزرق”.

وتتميز أجواء المنافسة الانتخابية هذه المرة كسابقتها في إبريل بحالة استقطاب شديدة، ويطغى عليها الى حدٍ بعيد الانشغال بالصراعات الداخلية والشخصية، وابتعاد المعارضة عن مناقشة جدية للقضايا السياسية التي ترتبط بالاحتلال ومستقبل الفلسطينيين والاكتفاء بطرح صيغ ضبابية.

وتظهر متابعة الخطاب الانتخابي العام أن الفلسطينيون يحضرون فيه بشكل باهت أو ثانوي، وإن حضروا فهم يحضرون بوصفهم إما مصدر إزعاج يجب أن يحاصر، و/أو مشكلة أمنية يجب أن تعالج، أو نقطة عمياء. ويغيب عن الخطاب الحديث عنهم بوصفهم ذوي إنسانية وشعب يعيش تحت الاحتلال، كما يغيب عن الخطاب أي نقاش أخلاقي أو حقوقي مرتبط بهم وبحياتهم.

ويلفت الانتباه في الخطاب السياسي الانتخابي بروز خاص لمفردات القوة والأمن والردع في خطاب المعارضة الذي يمثله تحالف “أبيض أزرق”، الذي يحاول إظهار ذاته بمظهر القوي القادر على مواجهة تهديدات إسرائيل، والتنصل في ذات الوقت من تهمة يساري التي يحاول نتنياهو الصاقها به بعد أن حول هذه الصفة إلى تهمة وحول الحديث عن الاحتلال إلى مصدر حرج يتم التهرب منه فيما يوضحون أنهم مع إبقاء الكتل الاستيطانية والقدس موحدة.

وتظهر في هذه الانتخابات وبشكل مثير كيف تحولت مقولات سياسية من الهامش الى المركز، حيث تحولت المقولات التي ترتبط بفرض السيادة على الضفة الغربية من مقولات لجماعات استيطانية هامشية متطرفة الى مقولات مركزية وشرعية تتموضع في قلب خطاب نتنياهو والليكود الذي يتميز أيضا بالشعبوية والتحشيد والتحريض على معارضيه عامة والفلسطينيين خاصة.

 

الفلسطينيون في البرامج الانتخابية الإسرائيلية: مطرقة الضم والردع

لم ينشر الليكود برنامجا انتخابيا منذ العام 2009، الذي وضع فيه الموضوع الإيراني على سلم أولوياته، وأوضح فيه أنه يرفض القيام بأية انسحابات إضافية. بالمقابل، يضع الحزب على موقعه دستوره وفيه أهم مرتكزات الحزب الأيديولوجية، منها: لم الشتات والحفاظ على القيم الليبرالية وأرض إسرائيل الكاملة. وإن كانت الخطابات والتصريحات والبرامج الانتخابية تشكل فعليا مرجعية لفهم توجهات الأحزاب التي تخوض الانتخابات خاصة من المعارضة، فإن الممارسة الفعلية لنتنياهو الذي يمسك بمقود الحكومة وتصريحاته تشكل فعليا المرجعية الأهم.

في هذا السياق، يمكن أن نرى أن نتنياهو الذي كان أعلن في خطاب جامعة “بار إيلان” الأول الذي ألقاه في حزيران 2009، في أعقاب انتخابه وتشكيله لحكومة برئاسته، وتحت ضغط إدارة أوباما، قبوله بـ “حل يقوم على وجود دولة فلسطينية منزوعة السلاح إلى جانب الدولة اليهودية،” عمل بشكل ممنهج على تفريغ هذا التصريح من أي محتوى. وفيما عمل منذ عقد على تحويل الأنظار العالمية من القضية الفلسطينية الى قضية التهديد الإيراني، فقد سعى في ذات الوقت الى تكثيف الاستيطان، ولم يعد يذكر ما صرح به في خطاب بار إيلان. ومع صعود “ترمب” انتقل الى انتهاج سياسة استيطانية يمينية شرسة ترافقت بتصعيد متدرج للحديث عن ضم الكتل الاستيطانية وفرض السيادة على المستوطنات. وفي نهاية العام 2017، صوتت اللجنة المركزية لحزب الليكود وبأغلبية كبيرة على فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية. وفي1  أيلول 2019، صرح نتنياهو أنه سيعمل على فرض “السيادة اليهودية” على المستوطنات، وأنه لن يكون هناك أي تفكيك لأي مستوطنة.

ويتشابه هذا التوجه اليميني الاستيطاني بشكل كبير مع برنامج تحالف “يمينا” الاستيطاني الذي يعبر عنه قادة التحالف ويدعو الى “دعم فرض القانون الإسرائيلي على يهودا والسامرة.”

اما حزب “يسرائيل بيتينو” الذي يقوده ليبرمان ذا التوجه اليميني العلماني، فيطرح برنامجا سياسيا “طموحا” يهدف الى تحويل اسرائيل من دولة صغيرة الى دولة عظمى إقليمية من خلال إبعاد التهديدات القائمة ومنع مواجهات مستقبلية. ولتحقيق ذلك، يضع الحزب برنامجا عماده القوة ومفرداته موزعة على الحسم والطرد والإعدام والهدم. وحسب قوله، “في المرحلة الأولى حسم الإرهاب من حيث إيقاف تحويل الأموال لحماس وخصم أموال الإرهاب من الأموال التي نجبيها للسلطة ونحولها لها، وسن قانون إعدام المخربين وطرد المحرضين وهدم بيوت المخربين والعودة للاغتيالات لقادة الإرهاب. في المرحلة الثانية سنعمل على تحقيق تسوية إقليمية. على عكس الأحزاب الأخرى، يرى حزب “يسرائيل بيتينو” أن صراع إسرائيل ليس صراع أراضي مع جيراننا الفلسطينيين بل صراع ثلاثي الأبعاد: صراع مع الدول العربية والفلسطينيين وعرب إسرائيل. لذلك فإن التسوية مع الفلسطينيين يجب أن تكون جزء من تسوية شاملة تشمل اتفاقيات مع دول عربية وتبادل أراضي وسكان لعرب إسرائيل.”

وفي مقابل طروحات اليمين السياسية الواضحة لمواجهة المسألة الفلسطينية والاحتلال، من خلال الضم وفرض السيادة على الأرض المحتلة، وانتهاج سياسة اليد الحديدية، فإن المعارضة التي يقودها غانتس تتبنى خطابًا سياسيًا ضبابيًا فضفاضًا، ويتعامل مع الفلسطينيين بالأساس كموضوع أمني يجب معالجته عبر التشديد على مركب الردع. فقد جاء ببرنامج “أبيض أزرق” برئاسة غانتس، أن التحالف سيقود سياسة تقوم على المبادرة والمسئولية، وتعمل من أجل تغيير الواقع في الشرق الأوسط وحدود البلاد، من خلال استعادة الردع في الجنوب من خلال انتهاج سياسة أمنية مستقلة في مواجهة قطاع غزة، تتضمن سياسة لا تنطوي على أي تسامح تجاه الاستفزاز والعنف ضدنا، مشيرًا إلى أنه سيعمل على الحفاظ على الكتل الاستيطانية والقدس الموحدة والجولان.

واختار حزب تحالف العمل – “جيشر” أن يتغاضى عن الاحتلال تمامًا في برنامجه الانتخابي الذي نشره. وبدل ذلك، اختار التركيز على الموضوع الاقتصادي–الاجتماعي، حيث يطالب بالاستثمار بالعمال والمرضى والأطفال والأزواج الشابة وتحسين شروط العمل ومحاربة الفقر. فيما يخلو البرنامج من أي تطرق للاحتلال او للمسألة الفلسطينية ويغيبها تماما.

ويختفي الفلسطينيون من طرح الأحزاب الدينية المتزمتة التي تضم “شاس” الذي يمثل المتدينون الشرقيون و”يهدوت هتوراة” الذي يمثل الاشكناز والذي كعادته لا ينشر برامجه. وبحسب ما صرح نائب عن “يهدوت هتوراة” أن الحزب “يمتنع وبشكل تقليدي عن اتخاذ موقف في مواضيع الأمن والخارجية، والحزب يثق في هذا الإطار في جهاز الأمن ورئيس الحكومة. عندما يطرح موضوع للتصويت في الكنيست سنقوم بعرضه على مجلس الحكماء (الرابانيم) ونأخذ منهم التعليمات ونصوت وفقها.”

أما المعسكر الديمقراطي الذي يتشكل من تحالف “ميرتس” وحزب “باراك” فلم ينشر برنامجه الانتخابي بشكل مفصل حتى الآن، لكن في الاتفاق الائتلافي لإقامته تم الإشارة إلى أنه سيعمل على إلغاء قانون القومية وعلى محاربة تحويل إسرائيل لدولة شريعة والحفاظ عليها ديمقراطية.

وبغض النظر من سينجح في الانتخابات ومن سيشكل الحكومة، فإننا يمكن أن نلخص على أساس البرامج الانتخابية وخطاب الأحزاب وجود مرتكزات تسم الخطاب الإسرائيلي، كانت هذه المرتكزات سابقا حكرًا على اليمين لكنها اليوم تحولت الى ما يشبه مرتكزات عامة:

  1. تشكل الكتل الاستيطانية اليوم موضوع إجماع إسرائيلي وهو ما يعني ان مسألة ضمها للسيادة الإسرائيلية، باتفاق أو دون اتفاق، لم تعد نقطة خلاف بين المعارضة والائتلاف. الخلافات اليوم هي على مستقبل المستوطنات “المعزولة” والبؤر.
  2. إسرائيل هي الدولة القومية للشعب اليهودي، وذلك بعد أن نجحت حكومة نتنياهو في سن قانون أساس القومية الذي، رغم النقد الذي وجهه معارضوه له من الأحزاب المختلفة، لم يعد اليوم موضوعًا للنقاش، ولا يطالب بإلغائه سوى المعسكر الديمقراطي والقائمة المشتركة التي تمثل المواطنين العرب.
  3. اختفى الاحتلال من البرامج الحزبية. يوجد حديث فقط عن تسويات حدود تتوسع وتضيق حسب من يطرح وما هي خلفيته ووجهته.

4.نجح اليمين بزعامة نتنياهو وخطابه الشعبوي في تحويل وصف يساري في إسرائيل إلى تهمة يسعى معارضيه الى تجنبها من خلال الهروب إما للقضايا الاجتماعية كتحالف العمل “جيشر”، أو التشديد على مركب الردع والقوة كتحالف “أبيض أزرق”.

في هذا السياق يجد الفلسطينيون أنفسهم أمام تيارين أساسيين، الأول يطرح فرض السيادة على الأرض المحتلة ووضعهم أمام الأمر الواقع كسكان درجة ثانية (أبارتهايد بحكم القانون Apartheid De Jure)، أو أمام تيار يطرح مزيدًا من المماطلة والردع والتأديب، ما يعني إبقاء الوضع على ما هو في أحسن الأحوال، أي أبارتهايد بحكم الأمر الواقع (Apartheid De facto). أما الإحتلال والحق بالحياة الكريمة وحقوق الإنسان فهذا أصلا خارج النقاش.


د. هنيده غانم:

المديرة العامة ل “مدار” -المركز الفلسطيني للدراسات الاسرائيلية-  حاصلة على شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع من الجامعة العبرية في القدس (2004) ، مختصة بعلم الاجتماع السياسي، لها مجموعة من الدراسات والكتب المنشورة عن السياسات الاسرائيلية والاحتلال العسكري والاستعمار الاستيطاني في فلسطين.


تعتبر مؤسسة روزا لوكسمبورغ واحدة من أكبر مؤسسات التعليم السياسي في جمهورية ألمانيا الفدرالية. تشكل مؤسسة روزا لوكسمبورغ منبراً للنقاش والتفكير النقدي حول البدائل السياسية، كذلك مركزاً للأبحاث للتنمية الاجتماعية التقدمية. وترتبط بشكل وثيق مع حزب اليسار الألماني ( دي لينكه). وفي هذا السياق دعمت مؤسسة روزا لوكسمبورغ المكتب الأقليمي في فلسطين والأردن شركاء فلسطينيين منذ العام 2000، وعمدت إلى تأسيس مكتبها الإقليمي في رام الله العام 2008. حالياً يتولى المكتب التعاون مع شركاء في الضفة الغربية، القدس الشرقية، وفي قطاع غزة، كذلك الأردن.

أوراق روزا هي مجموعة من التحليلات ووجهات النظر ذات العلاقة، ينشرها مكتب روزا لوكسمبورغ الإقليمي في فلسطين والأردن بين الفينة والأخرى، ومحتواها هو من مسؤولية الباحث/الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لوكسمبورغ.

 

 

شاركوا المنشور
})(jQuery)